تحت عين الرقيب

وَمَنْ يَتهَيّبُ صُعودَ الجِبالِ ..... يَعِشْ أبَدَ الدهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ

عبد الحكيم مفيد
في كل مرة أقف مع ذكرى يوم الأرض أتذكر قصة البياع الذي كان بعد أن يبيع سلعة، مضيفا سلعة اخرى للمشتري يقول له "خليها علبيعة"، ويبدو أن يوم الأرض جاء كمن جاء علبيعة، بالنسبة للبعض.
كما هي العادة مع التاريخ، ومع أي حدث، هناك أكثر من إمكانية لرواية القصة، بالإمكان دائما إضافة تفاصيل جديدة وقصص قد تصل إلى حد الأسطورة التي لا يمكن اختراقها، إذا تم تداولها جيلا بعد جيل، وأضيف إليها "رأي الشاعر"، وحيث يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره، فان القصيدة التي أمامنا صارت معلقة، لا نعرف أولها من آخرها.
يوم الأرض هو مناسبة عظيمة في حياة الفلسطينيين في الداخل، مناسبة اكبر بكثير من الحجم الذي يحاول البعض نسبها إليه، وتعالوا نتفق أن أي حادثة بحجم يوم الأرض يتم تجييرها لصالح مجموعة أو فئة فانه في الحقيقة يتم تقزيمها أولا، على هذا نقول أن يوم الأرض الذي انفجر في 30 آذار 1976 بداية في مثلث يوم الأرض عرابة وسخنين وديرحنا(في 29 آذار)، كان اكبر بكثير من "مناسبة حزبية"، مثل هبة القدس والأقصى، هذه أيام كبيرة، حجمها اكبر بكثير من أي كلام يكتب عنها.
حول وقائع يوم الأرض وتحديدا الإضراب الذي أعلنت عنه لجنة الدفاع عن الأراضي، والاجتماع التاريخي الذي عقد في بلدية شفاعمرو وكان رئيس بلدية الناصرة حديث العهد توفيق زياد قد قاد باتجاه الإضراب بقوة، ورفضه كثيرون، عن الحصار الذي أعلنه الجيش الإسرائيلي على قريتي سخنين وعرابة عشية يوم الأرض، احتلال عسكري وصفه في حينه قائد المنطقة الشمالية رفائيل ايتان ب"اليوم أعدنا احتلال سخنين"، عن الشهداء الذين رووا بدمائهم الزكية أرضهم الغالية، خديجة شواهنة ورجا ابو ريا وخضر خلايلة من سخنين، خير ياسين من عرابة ومحسن طه من كفر كنا ورأفت الزهيري من مخيم نور شمس والذي استشهد في الطيبة، وشاءت إرادة الله أن يستشهد مصلح ابو جراد من غزة في هبة القدس والاقصى في مدينة ام الفحم، هذه كلنا نعرفها.
ولكن لماذا اندلعت أحداث يوم الأرض، هل بسبب إغلاق منطقة المل (منطقة رقم 9) أمام أصحابها من عرابة وسخنين وغيرها واعتبارها منطقة عسكرية؟ هل بسبب مصادرة أراض تابعة لسكان عين ماهل وكفركنا والمشهد لصالح مستوطنة نتسيرت عيليت؟ يمكن، هل بسبب مشروع تهويد الجليل الذي أطلقته حكومة رابين في العام 1975 لمنع سيطرة "عربية على الجليل"؟ أيضا يمكن، ولماذا لا يكون ذلك بسبب مصادرة أراضي نحف ودير الأسد لصالح مستوطنة كرمئيل؟ أيضا وارد.
ماذا قلنا آنفا، أن كل الطرق تؤدي إلى الأرض، بالتالي لا يهم اين كانت البداية، ومن أطلق الشرارة، في تلك الأيام بخلاف ما يروج له البعض لم يبحث الناس عن "حقوق" كثيرة، ولم ينشغلوا في معركة المساواة قبل 35 عاما، كانت ارض الناس ما زالت تنهش وتصادر، وكان هؤلاء الناس، الذين هم نحن، من بقي من أبناء الشعب الفلسطيني، يواجهون معركة طمس وتذويب، مشاريع متواصلة لخلق عربي جديد، هو مزيج من الكيرن كييمت وعمال البناء، كانت هناك معركة حامية الوطيس على هوية الناس وانتمائهم وتاريخهم ومستقبلهم.
هنا بالضبط كان يكمن الخلاف، إذ لا خلاف مبدئيا حول المصادرة وحجمها ومساحتها، بالأرقام كنا نعرف كل شيء، لكن تفسير الأرقام كان مختلفا، نحن إذا لا نختلف حول الأرقام بل حول تفسيرها ومعناها، وهذا خلاف ليس بسيطا كما يعتقد البعض .
يوم الأرض ليس مسالة "متفقا عليها"، هناك أكثر من رواية، وهناك أكثر من وجهة نظر.في المسافة الواقعة بين البحث عن الذات وبين المصادرة جاء يوم الأرض، المصادرة لم تكن جديدة، المصادرة لم تبدأ قبل يوم الأرض بقليل، يوم الأرض كان نقطة الغليان، في البحث عن الأرض الضائعة والمصادرة والهوية التي كانت هي الأخرى قيد المصادرة.لماذا نقول هذا الكلام ، لان هذا أهم ما في يوم الأرض، وهنا بشكل خاص هناك ما هو خلافي للغاية مع من يدعي أن يوم الأرض هو "صناعة فئة" ، ليس لان هذه المعلومة غير صحيحة فقط ( أي حدث في التاريخ لم تصنعه أحزاب أو حركات، الجماهير هي التي تصنع اللحظات التاريخية الحاسمة)، بل لان هناك تناقضا جوهريا بين "صناعة" حدث مثل يوم الأرض بما يحويه من معان وبين ما كان يحمل في الحقيقة الذين يدعون أنهم صنعوه.
يحتج الحزب الشيوعي الإسرائيلي دائما بالإضراب التاريخي وموقف رئيس بلدية الناصرة في حينه توفيق زياد الذي كان مع الإضراب ليحمل هذا الموقف التاريخي والهام على الحزب الشيوعي، ويصبح بعد ذلك ومن المعلوم بالضرورة أن يوم الأرض هو "صناعة حزبية"، لم يكن يوم الأرض صناعة حزبية وهذه مسالة يجب تكرارها والتأكيد عليها، مثلما لم تكن هبة القدس والأقصى "صناعة حزبية"، ولا يمكن أن تكون كذلك، مثل أي يوم في تاريخ الشعوب وليس الشعب الفلسطيني لوحده.النقاش على هذه الزاوية مهم للغاية ، لأنه جزء من صناعة التاريخ وكتابته، لكن أيضا هناك من المسائل التي يجب إجراء نقاش جدي حولها، حتى وان كانت من "المسلمات" بحسب رأي البعض.
من وجهة نظرنا كان هناك تناقض جوهري للغاية بين ما شكله يوم الأرض وبين رؤية الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وما قد يتحدث به الرفاق اليوم علانية، دون الوقوع في حرج، لم يكن البتة قبل 34 عاما، ولا يمكن فقط الاحتجاج الدائم بموقف توفيق زياد لتفسير موقف الحزب، لان زياد لم يحمل موقف الحزب التاريخي والتقليدي ولم يكن يمثله في يوم من الأيام، الموقف التقليدي والتاريخي للحزب الشيوعي الإسرائيلي لم يكن مع المواجهة و"اخذ القانون إلى اليد"، ولم يكن على استعداد لقبول حالة يعبر العرب هنا في الداخل عن فلسطينيتهم ووطنيتهم خارج "الدائرة" التي كان الحزب يؤمن بها ويحارب من اجلها، وكان على استعداد أن يقف في وجه كل من يحاول الناس من خارج الدائرة.
طبعا تاريخيا لا يعرف الكثيرون الذين ولدوا في عام يوم الأرض، وقبله بقليل أو بعده بقليل أو كثير، أن الحرب على الهوية كانت احتلت منذ منتصف سنوات السبعين احد ابرز مراكز المواجهة التي خاضها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وفيما بعد الجبهة، ليس مع إسرائيل بل مع الجماهير الفلسطينية أو فئات منها.يوم الأرض كانت معركة على هوية وطنية، لم تكن معركة ضد التمييز وان كانت، لم تكن معركة ضد المساواة وان كانت، لم تكن معركة على الحقوق اليومية وان كانت، هذه المعارك لا تولد شهداء، ولا يمكن أن تولد مواجهات بالحجم الذي أنتجه يوم الأرض.
وإذا رغبنا أن ندقق في الأسماء والمسميات نقول انه من الوارد أن يكون جزء من أسباب المواجهة كامنا في التفاصيل الصغيرة التي ذكرت، لكن من المؤكد أن الناس لا يستشهدون من اجل شبكة مجار.الملفت للنظر وللأيام، أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي خاض معركة ضروسا منذ أواخر الخمسينات وصلت ذروتها في منتصف السبعينات وما بعدها على الهوية، وهنا طبعا لا يستطيع الحزب الشيوعي الإسرائيلي ولا واحد من أنصاره الادعاء أن الحزب حارب من "اجل هوية وطنية فلسطينية"، على العكس لقد حاربها بلا هوادة، اسألوا أنصار حركة أبناء البلد وقبلهم أنصار حركة الأرض وستفهمون جيدا أي حرب خاض الحزب في تلك الأيام ضد هوية الناس الوطنية، هذا لم يكن قبل يوم الأرض فقط بل استمر إلى ما بعد يوم الأرض بكثير وما زال صداه إلى اليوم.لماذا نقول هذا الكلام، لان هناك من اغتصب وما زال يغتصب التاريخ، والأسماء، وهذا طبعا لا يقلل من دور أي شخص مهما كانت هويته الحزبية، لكننا نفصل فصلا تاما بين موقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي وبين موقف شخصيات كانت تنتمي إليه.
في أي شكل للتعبير عن يوم الأرض، فانه من أي مكان نتجه إليه فأننا سنلتقي مع وطنيتنا المفعمة بكل معاني المحبة للوطن، الذي أردنا أن يمنحنا هوية، أراد آخرون وعملوا على سلبها، التاريخ والجغرافيا والغد، هذا مهم للغاية، لان النص دائما حمال على أوجه، كل واحد يفسر التاريخ من الزاوية التي يريد، في بلدنا سقط الشهداء بشكل جماعي مرتين، في اللقاء مع الأرض وفي اللقاء مع الأقصى، هذه لم تكن معركة على الحقوق ولا على الواجبات، هذه لم تكن معركة على المساواة، حقيقة أن بعض ملامح هذه المعركة كان موجودا في طي المعركة ذاتها ، هذا لا يقلل من جوهر المعركة الحقيقي.
هنا بشكل خاص لا يمكن للحزب الشيوعي الإسرائيلي أن "يزيف" النص، لقد كان واضحا إلى ابعد الحدود، كان وضوحه غير عادي، هذا ليس كلاما يقال تجنيا عليه، هذا كلام تؤكده أدبيات الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي عرف حركة شبيهة ب"حركة الوطنية الإسرائيلية"، وكانت الاتحاد ما زالت تهنئ بيوم استقلال إسرائيل، في يوم نكبتنا، إذا كان خطاب الحزب والجبهة قد تغير كما هو حاصل اليوم، فان هذا لا يتناقض من حيث الترتيب الزمني والمنطق مع حقيقة كون خطاب الحزب "إسرائيليا" حتى النخاع، قبل يوم الأرض، وعشيته وبعده بكثير، وما زال إلى هذه اللحظة، رغم أن راديكالية الخطاب صارت تغطي على "إسرائيلية الحقيقة".
هذا النقاش مهم للحزب الشيوعي قبل ان يكون مهما لغيره، مهم لأنه لا بد من قراءة التاريخ في يوم من الأيام، ولا بد من الوقوف مع الحقيقة، إذا رغب الحزب الشيوعي الاسرائيلي أن لا يعيد أخطاء الماضي بشان مواقفه كما فعل في عام النكبة وبعدها، وما زال يصمم إلى اليوم على قراءة خاطئة للاحداث، فعليه أن يكون صريحا مع ذاته أولا، وهذا أفضل .
نفس المنطق ينطبق على يوم الأرض عام 1976، ما أتاح للحزب أن "يحتكر" رواية يوم الأرض هو مقارنته بغيره، هو اللاعب "الشبه وطني" (إذا جاز التعبير) الوحيد في حينه، وكان يلعب إلى جانبه أحزاب عربية من صناعة صهيونية، هذا كان عاملا مساعدا دائما لإضفاء "الموقف الوطني الفلسطيني" على الحزب الشيوعي، الوهم انه يشكل النقيض للأحزاب الأخرى كانت تلبسه مباشرة ثوبا وطنيا فلسطينيا، وهنا حين نقول "ثوبا وطنيا فلسطينيا" لا نقصد أن الحزب كان في موقف الخيانة، بل انه كان في الحقيقة يتبنى موقف حزب إسرائيلي، بكل ما لهذا المصطلح من استحقاقات، ولا يمكن وليعذرنا الجميع أن يصنع يوما وطنيا فلسطينيا بحجم يوم الأرض، هذا مستحيل، لا يقبله المنطق السياسي ولا يقبله الواقع.
هذا في ذات الوقت لا يقلل من الدور الذي لعبه ناشطون في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، واجهوا وجرحوا وسجنوا وقمعوا، لكنهم لم يفعلوا ذلك على أساس أنهم "أعضاء في الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، بل على أساس أن لديهم حسا وطنيا فلسطينيا حاول الحزب قمعه كل الوقت، وإبعاده وتحييده، كل من يرجع إلى أدبيات الحزب سيفهم قصدي، كل من يقف مع مواقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي في تلك الأيام وما حملت من وضوح سيعي بالضبط ما أقول.
لقد كانت علاقة الحزب الشيوعي الاسرائيلي مع الثورة الفلسطينية المسلحة علاقة عدائية، ووصفت بعض أعمالها بالإرهاب في تلك السنوات، ولم يعترف الحزب الشيوعي الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني إلا حين قبلت بمشروع النقاط العشر أو البرنامج المرحلي وهو أول مشروع تسوية فلسطيني، حتى موضوع الدولة الفلسطينية لم يرد في أدبيات الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلا بعد العام 1974، لقد تصرف الحزب الشيوعي على أساس انه إسرائيلي، وما زال طبعا، لكنه فعل ذلك بوضوح وصراحة اكبر في تلك السنوات.كل ما نريده من هذا الكلام كمساهمة لتوضيح رواية "يوم الأرض" التي نعتقد أنها تحتاج إلى صياغة من جديد، ونقاش أكثر جدية حوله.

0 التعليقات:

إرسال تعليق