تحت عين الرقيب

وَمَنْ يَتهَيّبُ صُعودَ الجِبالِ ..... يَعِشْ أبَدَ الدهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ

عبد الحكيم مفيد

حاول الدكتور مصطفى الفقي- رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المصري- أن يستل كل ما في جعبته للدفاع عن الموقف المصري, لكن كم مرة ممكن أن تقول نفس الكلام, وكم مرة يمكن أن تدافع عن موقف أنت "غير مقتنع به"، كما يبدو من كلام الفقي.
كان مصطفى الفقي اختيارا مصريا "نصف موفق" للدفاع عن الموقف المصري, فالرجل يقع في "منزلة بين منزلتين", يعتز من حين لآخر بموقفه "القومي", ويؤكد من حين لآخر على الدور "المميز" الذي لعبته وتلعبه مصر في القضية الفلسطينية وحجم التضحيات التي قدمها المصريون لفلسطين.
لكن الفقي يبدو من الناحية الأخرى مثل المتورط في الدفاع عن مجرم ثبتت عليه الجريمة بالجرم المشهود, وهو على ذلك لا ينفع معه إي نوع دفاع, بعد أن ثبتت الجريمة, وثبتت بالقطع, وبالدليل القاطع.
دفاع مصطفى الفقي يشبه المحكوم عليه بالإعدام عشر مرات, فقد نجح المحامي بالحصول على حكم براءة في تسع حالات, وبقيت حالة واحدة, حكم إعدام واحد, فماذا تفيد التسع براءات بالنسبة للمحكوم عليه بالإعدام.مع تقديرنا الشديد للغاية للدكتور الفقي الذي يتسم موقفه عادة بالاتزان, فان كل ما فعلته مصر عبر تاريخها العظيم تجاه العرب والفلسطينيين منذ النكبة وما قبلها لا ينقذها ولا يغفر لها (ونقصد مصر الرسمية) موقفها الأخير بشكل خاص, في قضية "الجدار الفولاذي", كل التفسيرات التي يحاول المصريون ترويجها لا تقنع أحدا ولا حتى المصريين أنفسهم,على ذلك وتحويل الفقي إلى "الناطق بلسان الوطن" هي جزء من عملية إعلامية "هزيلة" لم تعد مجدية للاستعمال.
يحاول ألفقي أن يسير بين النقاط, وحين يوجه له الدكتور اسعد أبو خليل سؤالا منطقيا للغاية حول ما قامت وتقوم به إسرائيل تجاه مصر من قتل لجنودها وسكانها, للرد على ألفقي في قضية الجندي المصري الذي تعتبره مصر "شهيدا" فيما لم يحظ غيره بهذه المكانة من جنود قتلتهم إسرائيل حديثا, فان ألفقي يخرج قليلا عن توازنه أولا ثم يجيب إجابة مفجعة حين يقول "لكن إسرائيل دي عدو", والمقصود أن "إسرائيل تستطيع أن تفعل ما تشاء", لان فعلها مبرر على أساس أنها عدو.لكن ألفقي ورغم كل المحاولات الدعائية بالاحتماء خلف "العدو إسرائيل" فانه لا ينتبه أن مصر الرسمية الذي يمثلها هو لا تتعامل مع إسرائيل على هذا الأساس بتاتا, بالعكس أنها تنسق معها, وفي قضية غزة بشكل خاص وصل التنسيق والتعاون إلى حالة لم يسبق لها مثيل في تاريخ التآمر العربي على العرب أنفسهم.
وينسى ألفقي,عن قصد طبعا, أن يفسر السلوك المصري في قضية الجدار كما يجب أن تفسر لا أن يحيلها إلى كلام فارغ لا يقنع أي طفل في حي بولاق في قاهرة المعتز, حول السيادة والدفاع عن النفس.
ينسى ألفقي أن يعلم المستمعين أن مصر تتصرف على أساس اتفاقية اسمها "كامب ديفيد" وهي ملتزمة من خلالها بالدفاع عن مصالح وامن إسرائيل وليس امن مصر بتاتا, وهذه الاتفاقية هي التي تجعل من موقف مصر الرسمية موقفا تآمريا, لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم الدفاع عنه, وليعذرنا المصريون والفقي على رأسهم, الذي أشار إلى "التزام مصر" باتفاقيات دولية ولم يفسر ما هو نوع هذه الاتفاقيات.كامب ديفيد التي تتصرف مصر على أساسها هي اتفاقية ذل وعار, لم تعد لمصر حتى سيادتها في سيناء, لأنه من رفح وحتى قناة السويس لا يوجد قوات مصرية بحسب اتفاقيات كامب ديفيد, هذا هو أهم ما يجب توضيحه.طبعا يعرف ألفقي وغيره أن الحديث عن السيادة المصرية هو حديث مضحك وغير مقنع للغاية, لان مصر لم تدافع عن سيادتها المنتهكة بحسب اتفاقيات كامب ديفيد, والمصريون الحريصون على سيادة مصر يعرفون جيدا ما نقصد, وقد سبق لبعض هؤلاء أن كتبوا بتوسع و"عمق" عن كامب ديفيد والسيادة المصرية.
وحين يحاول بعض المتحدثين الحديث عن تهريب "المخدرات والأسلحة" من غزة إلى مصر فأنهم يصلون إلى حد الشفقة, وطبعا لا يتحدث هؤلاء عن تهريب من مصر إلى غزة بل بالعكس, المخدرات "تضر" للغاية في حياة المصريين, و"السلاح" يستعمل لعمليات إرهابية في سيناء, هل يمكن أن يكون أكثر من هذا الكلام "عهرا", والمصريون يعرفون انه لا أساس لهذا الكلام من الصحة, فمصدر الحشيش والمخدرات يعرفها المصريون, ومصر مفتوحة من كل الجهات, حدود تمتد عبر آلاف الكيلومترات من البر والبحر والجو, وليس أسهل من إدخال المخدرات إلى مصر, أما بالنسبة للأسلحة فتلك مسالة حقا لا تحتاج إلى كلام.
إلى جانب ذلك لا يذكر المصريون الذين يطالبون ب"تنظيم" إدخال البضائع إلى مصر, أنهم في الحقيقة أغلقوا المعبر الأهم على غزة, معبر رفح بعد أن أغلقت إسرائيل كل المعابر, وانهم يمارسون شاءوا أم أبوا عملية خنق وتجويع بحق أبناء غزة, وانه لو كانت فعلا هناك بضاعة تدخل بانتظام إلى قطاع غزة من مصر ما كانت حاجة لإدخالها من الانفاق وهذه مسالة لا تحتاج إلى إقناع, لان هناك مخاطرات في إدخال البضاعة من الإنفاق أولا, ولان الأسعار ترتفع إلى أضعاف بسبب شحها في السوق, وهو ما يؤكد أن مصر لا "تملك سيادة" على معبر يصل بينها كدولة "سيادة" وبين قطاع غزة, وهنا لا بد للمصريين أن ينتبهوا جيدا أن الكلام حول السيادة غير مقنع بالمرة, لان ما يحدث على معبر رفح والإغلاق الذي تمارسه مصر يثبت واحد من اثنتين, اما انه لا سيادة حقيقية لمصر هناك , وإما انها شريكة في الإغلاق والتآمر على غزة, وإذا كان هناك خيار ثالث فليقله المصريون.
ما تقوم به مصر الآن هو خنق وتشديد حصار, طبعا يعرف المصريون انه لا "احد يموت من الجوع", وان غزة إلى الآن لم تمت, حتى أن البعض يقول "انه لا أزمة ولا تحزنون", وفي مثل هذا الكلام "كفر بواح", لأنه حتى لو لم تمت غزة بعد من الجوع فإنها بالضرورة "ماتت من التآمر", فليس هناك أسوأ على المصريين من أن يشارك عرب ومسلمون في الحصار بالشراكة مع إسرائيل, هذه أصعب بكثير من الجوع, وأصعب بكثير من قلة الدواء, لان غزة محاصرة مرتين, محاصرة جسدا, ومحاصرة روحا, والأخيرة أصعب بكثير.
يحاول المصريون الحديث عن "اتفاقيات" تلزمهم, اتفاقيات دولية واتفاقيات الإنفاق, وأمور أخرى, ولو فرضنا أنها كانت "ملزمة" فعلا للمصريين, وان عليها يقف "مستقبل مصر", فإننا لا نفهم "الجدار الفولاذي" الذي تبنيه مصر بالتنسيق مع أمريكا وإسرائيل طبعا (ويستطيع المصريون أن يدعوا مئة ألف ادعاء ضد هذا الكلام, لكن الحقيقة هي الحقيقة), إلا تآمرا على غزة وتنسيقا مع"أعداء مصر" (كما يسميهم ألفقي من باب النكتة), من اجل كسر غزة, وإرادتها وموقفها, من اجل إذلالها, فمصر بالمناسبة مثل كثير من الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية, يحاربون غزة لأنها لم تخنع وتذل مثلهم, وهو أمر لا يقبله من ذل وهان, كم هي غريبة حياتنا يا مصطفى ألفقي, تلك التي لا تستوعبها أنت ولا غيرك ولا حتى نحن, غزة لا تخضع ولم تخضع إلى الآن لحسابات السوق.

0 التعليقات:

إرسال تعليق