تحت عين الرقيب

وَمَنْ يَتهَيّبُ صُعودَ الجِبالِ ..... يَعِشْ أبَدَ الدهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ

تقرير: عبد الله زيدان - مراسل موقع فلسطينيو 48 وصحيفة صوت الحق

الحاج أبو عاطف، ابن بلدة صفورية الفلسطينية المُهجّرة، ما زال شاهدا عليها... وفي قلبه حسرات المشتاق المحب لوطنه وأرضه وبيته، الذي عاش فيه أيام الصبا مع أصدقائه وأحبائه وأهله.. تذوّق معهم خضار سهولها وفواكه بساتينها وشربوا من ينبوعها، ولعبوا معا في ساحاتها..
هو شاهدٌ على تلك الأيام الهنيئة التي لا تغيب عن خاطر من عاشها، كيف لا وهي صفورية الجميلة بإطلالتها الخلابة، يقصدها القريب والبعيد، غنية بثمارها.. تحيطها بساتينٌ من شجار مثمرة بكل أنواعها، وسهولٌ ومزروعات على مساحات شاسعة.
هو ابنها البارُّ.. ينام كلّ مساء وهو يحلم أن تشرق شمس الغد الذي يعود فيه إلى بيته الذي ولد فيه.. هو الحاج محمد أحمد حسن عامر من عائلة "العمارنة"، من مواليد سنة 1933م، يبلغ من العمر 71 سنة، قضى 15 سنة منها في أحضان صفورية الدافئة، حتى أخرجتهم مدافع وطائرات العصابات الصهيونية...
صفورية في الذاكرة
لا يزال الحاج أبو عاطف يذكر صفورية حجرا بحجر وبستانا ببستان ومنطقة بمنطقة، بل شبرا بشبر.ويحدثنا الحاج أبو عاطف خلال رحلة انطلقت من بيته الذي لجأ إليه في بلدة كفرمندا... حتى مررنا بسهول صفورية التي سُلبت، وهو يسمي كلّ منطقة باسمها العربي الذي حُرّف إلى أسماء عبرية.. ابتداء من منطقة أبو خرزة ومنطقة وعرة السريس، التي هي الآن "سولاليم"، إلى منطقة الخلادية، التي هي الآن "هموفيل" ومرورا بمنطقة البرانيس ووادي المخاضة ومنطقة شمشي وجبل العين، تليها منطقة البساتين ومنطقة زيتون مرج الذهب.
وقبل دخولنا صفورية مررنا على نبع القسطل الذي كان يروي سهول صفورية وأهلها والبلدات المجاورة... هنا لعبنا الغميضةبعد دخولنا صفورية أخذ أبو عاطف يعدد لنا الحمائل التي كانت تعيش فيها، ويشير بيده إلى كلّ منطقة ويذكر الحمولة التي عاشت فيها، ومن الحمائل التي ذكرها: الحدايدة والمواعدة والغنايمة والسعدي والعمارنة.. حتى أنّه عدّد الكثير من البيوت ولمن كانت، وأخذ يشير بيده ويقول: "هنا كان بيت "أبو فارس" المختار، وهنا بيت حسين وأسعد العبد الله، وهنا كان كراج العفيفي وبيت صالح العفيفي، هنا كانت مدرسة وهناك كان مسجد... وهنا كانت مقبرة لحمولة الحدايدة والمواعدة للصغار وهناك للكبار".
عائدون
ولا زال الحاج يعود بشريط الزمن ويتذكّر كلّ شيء في بلدته، وهو يشير بيده إلى كلّ شبر فيها ويقول: هنا حدث كذا، وهذه الأرض لفلان وهناك كان بيت علان.. دخلنا برفقة الحاج أبي عاطف إلى منطقة كانوا يسمونها منطقة القلعة، تلك المنطقة التي حوّلها اليهود إلى متنزه سياحي.. يقول الحاج وهو يشير إلى القلعة: "هنا كانت مدرسة للبنات وكانت تحيط بها ساحة كبيرة.. وكنّا نلعب بساحاتها مع الأولاد والبنات لعبة الطابة، ولعبة الغميضة، ولعبة روّح، ومن الألعاب التي لعبناها أيام الصبا لعبة بيت بيوت".
خيرات صفورية
ويحدثنا الحاج أبو عاطف عن مسقط رأسه صفورية، فيقول بصوت امتزج بألم وشوق: "والله كنّا سعداء بتلك الحياة في بلدنا، تلك البلدة التي كانت تنعم بالكثير من الخيرات، حيث أنّها كانت تتميز بالزراعة، بالبساتين، خضراوات وفواكه بكل أنواعها، حتى إنّها لم تكن تطعم صفورية فقط وإنّما كانت تطعم الناصرة والبلدات المجاورة، وكانت تصدّر الكثير من محصولها إلى بلدات ومدن أخرى كمدينة حيفا..".
ويضيف أبو عاطف: "صفورية كان فيها مكبس للزيت ومعصرتان على الدواب، وكان فيها مكبس للحليب، وكانت تصنّع الأجبان، وكان فيها مساحات شاسعة من الزيتون الرومي القديم". صفورية الحضاريةوأخذ يتحدث عن الحياة في ذلك الوقت فيقول: "كانت الحياة رائعة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، كان الناس يملكون أرضا وحلالا، صفورية كانت مدينة حضارية.. كان فيها بلدية وكان فيها موظفون ينظفّون شارع "الزفتة"، وكان فيها ملاحم وبقالات ومحطة لحافلات العفيفي، بحيث كانت تخرج من صفورية وتمرّ إلى أي بلد تريد، حتى إنّ البلدان المجاورة كانت تأتي للسفر عبر حافلات العفيفي".
تكافل اجتماعيّ
ومضى أبو عاطف يتحدث عن التكافل الاجتماعي الذي ميّز الحياة في ذلك الوقت، وكله أمل أن يعود به الزمان إليه: "لم تكن هناك مشاكل كبيرة بين الناس، وإذا ما حدثت هناك مشكلة كنّا نتوجه إلى أي كبير من كبار صفورية فيعمل على حلها، والرائع في حياتنا أنّ الناس كانوا يتعاونون في الكثير من الأمور الحياتية، حتى إنّهم كانوا يتقاسمون لقمة العيش". ويحكي أمثلة على ذلك فيقول: "عندما كان ينتهي موسم الحصاد وينفد القمح عند أحدنا، كان يتوجه إلى جيرانه ويطلب القمح فلا يتأخرون عن إعطائه، وعندما يأتي موسم الحصاد في السنة التالية يقوم بإرجاعه"، ومن الأمثلة الأخرى، قال :"عندما كان يأتي عندنا ضيف ونكون قد انتهينا من الطعام، نذهب إلى جارنا ونسألهم إذا كان عندهم طعام، فكنّا نأخذه ونذهب به لإطعام الضيف"، وأضاف: "كان الجيران يستعيرون من بعضهم البعض الذبائح"، وشدد بالقول: "كان الحب والتكافل شائعا بين الناس وليس كاليوم...".
هكذا هُجّرنا وننتظر شروق العودة!!
بلدة صفورية تعدّ من مئات البلدات التي هُجّر أهلها سنة 1948م، وبصوت رنانٍ تخرج منه تنهدات الألم وهو يتحدث عن يوم خروجهم من صفورية: "خرجنا إلى أحراش الزيتون التي تحيط بصفورية، نعم.. خرجنا ليلتها ونحن نقول عند شروق صباح الغد سنعود إلى بيتنا، ولا زلنا إلى اليوم ننتظر شروق هذا الصباح الذي نعود فيه إلى بيتنا..." الحاج أبو عاطفويضيف: "في بادئ الأمر جاءنا اليهود مرة ومرتين لنسلّم صفورية، لكنّنا رفضنا تسليمها... في اليوم العاشر من رمضان مرّت طائرة فوق صفورية وقصفت بيتا، فهدم على أصحابه وماتوا، فأرهبنا هول المشهد، الأمر الذي جعل الأهالي يفرون هاربين إلى الأحراش والبساتين المتاخمة لها، وبتنا ليلتنا هناك، وعندما جاء الصباح كان اليهود قد دخلوا إلى منطقة القلعة (المدرسة) فأخذوا يطلقون النار على الناس بطريقة همجية ووحشية، فهربنا شمالا، وها نحن اليوم مهجّرون، منا من ذهب إلى الناصرة ومنّا من ذهب إلى كفرمندا وعرابة وسخنين وبلدات أخرى، ومنا من ذهب إلى لبنان..، خرجنا ونحن نقول: سنعود غدا أو بعد أسبوع وسيحكم اليهود البلدة سبعة أيام أو سبع سنين أو سبعين سنة وسنعود... وما زلنا ننتظر شروق صباح العودة".
ويتابع : "عندما خرجنا من بيتنا بقي أبي (أبو صالح) فيه ورفض الخروج، ولكنهم أخرجوه بالقوة في وقت لاحق، ومن المشاهد الصعبة ما حدث مع رجل اسمه أحمد سعيد غنايمة إذ كان مع أبي في البيت، وعندما أطلق اليهود النار على الناس، قال لأبي: دعنا نهرب، لكن أبي رفض ورد عليه: لا يمكن أن أهرب، أنا سأموت في بيتي، فهرب الرجل وعندما رآه اليهود أطلقوا عليه النار ووضعوا عليه القش والفراش وأشعلوا النار فيه".
متمسكون بحق العودة
رغم هذه الأحداث التي حصلت مع "أبو عاطف" إلا أنّه متمسكٌ بحق العودة إلى بلده ووطنه وأرضه ويُعلّمه أولاده وأحفاده من جيل إلى آخر.ويتابع أبو عاطف: "كان أصعب شيء عليّ أني تركت بيتي وأرضي ووطني، وأصبحنا نتجول في البلاد كالمتسولين، نعيش بذلّ وهوان، وما زلنا إلى اليوم نعيش بهذا الشعور"، مشيرا إلى "أنّ الإنسان إذا خرج من بلده تبقى حياته صعبة مهما كان، لأنّه يبقى لاجئا، في حين كنّا نعيش ونحن سعداء في بلدنا إلى جانب زيتوننا وبساتيننا.. وإن شاء الله سوف نعود، وإن لم أعد أنا سيعود ابني أو حفيدي وسنعلم حقنا هذا لكل الأجيال".
ويتوقف لحظات وهو يتأمل أنحاء قريته ثم يواصل: "أبي أوصانا أن لا نبيع الأرض، فلم نبع أرضنا وإلى اليوم نحفظ الوصية، ومعنا الوثائق التي تثبت ملكيتنا لأرضنا. نحن لن نبيع الأرض ما دمنا أحياء ولن نبادل ولن نساوم". هنا كان بيتنا.. وهذه صبرتنا ما تزال حجارة البيت الذي ترعرع فيه الحاج أبو عاطف مع والديه وإخوته الذين شاطرهم العيش وأخواته اللاتي حنّ عليهن، شاهدة على نكبة أصحابها.. وكأني بها تنظر إلى الحاج أبي عاطف وهي تقول: اشتقت إليكم. وهنا أخذ الحاج أبو عاطف يشير بيديه إلى كلّ شبر من أرضهم، وهو يقف على آثار بيته ويقول: "كان عندنا بيت كبير مع غرفتين، وكنا نملك مساحة كبيرة حول البيت وكنّا سعداء، كان عندنا مواشٍ وخيل وهنا كنّا نكبس الزيتون وهنا كان البيدر"، ثمّ وقف أمام صبرتهم وقال: "هذه صبرتنا..
جئت يوما -قبل سنوات- إلى هنا وأخذت أقطف من صبرها، فرآني اليهودي الذي أخذ الأرض، وقال لي: اذهب من هنا.. هذه أرضنا... فقلت له: لا.. هذه أرضنا وهذه صبرتنا"..







فيديو من المقابلة :

0 التعليقات:

إرسال تعليق