تحت عين الرقيب

وَمَنْ يَتهَيّبُ صُعودَ الجِبالِ ..... يَعِشْ أبَدَ الدهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ


مع نهاية كل عام دراسي يتوجه محمد شمالا نحو قرية وادعة بين الجبال تناثرت بيوتها ، بعيدا عن ضوضاء مدينته وصفارات السيارات ، ينام مع أولاد خالته أعلى سطح البيت حيث يرى البحر ويشـُم الهواء العليل ويلاطفه النسيم البادر المنعش ، منطقة مشرفة مرتفعة مرتفعة تكشف أراض واسعة من بلادنا الخضراء الخصبة ، ينام ويود لو يستمر الليل ساعات أخرى ممتعة مريحة ، إلا أن الديك في الفناء يصيح منبها إياه بأن الفجر قد اقترب ، صاح الديك هو رافع رأسه بين بضع دجاجات تتجول وتأكل ما كتب لها ، قام والمنادي بنادي الصلاة خير من النوم ، توضأ ونزل أسفل الجبل حيث المسجد ، أسفل الجبل عكس ما كان متبعا في قرى فلسطين إذ يحتل المسجد مركز القرية أعلى التلة ، إلا أن هذا المسجد بني منذ مدة قريبة وهناك آخر قديم أعلى التلة المجاورة ، صوت الأذان يرتد وصدى الصوت يرن في الاذان من الجبل للوادي فالسهل أن قوموا لصلاتكم.

عاد من الصلاة الى زريبة ( صيرة) الغنم مع ابن خالته ليحلب الاناث تحضيرا لها ليسرح بها في المروج والتلال ، فتملئ ضرعها تارة أخرى ليرضع صغيرها ويأخذ الناس ما تبقى ، أخذ الحليب داخل سطل الى مخزن صغير حيث خالته تجلس لتجبن الحليب فتصنع الجبن ويبقى مقدار اناء أو اثنين يدخلها المطبخ فيستغل للطبخ وللشرب ساخنا مع ملعقة عسل طبيعي بلا اضافة سكـّر ، ومن الحليب ما يُشخل أي يوضع في كيس مغلق ليَرُوب ويصبح بعد حين لبنة حامضة المذاق تؤكل مه خبز طابون وبندورة ، أعدت ابنة خالته لهم الفطور ، اقراص الجبن الطازجة المالحة الطرية تقلى بزيت زيتون محلي ، بيض من الفناء حيث الدجاج ، وبعض الحواضر ، أكل حتى شبع وعقد زوادة الغداء ، نزل الى الساحة ومعه مطرته فنـَشـَل الماء البارد اللذيذ من البئر ، غسل وجهه فانتعش ، ملئ المطرة ، رمى الدلو في البئر وأغلقه خشية أن يقع فيه الأطفال ، وتجوه إلى صيرة الغنم مارا بالطابون وقد تم تزبيله فيشتعل وتفيح رائحته المميزة منتظرا أرغفة الخبز ليجعلها مقرمشة تسر الناظرين ومن يتذوقها.

أخرج الأغنام من الصيرة وراح يتنقل بها حيث العشب قد يبس اصفرا تأكل وترتع تحت ظل شجرة بلوط فارعة الطول وعلى أحد أفنانها ، رفاع عريض يستلقي محمد وابن خالته الذي يحب اللغة العربية ويتفنن بالكتابة بخط عربي أصيل متقن ، ويحفظ أجزاء من القرآن الكريم أتمها خلال خروجه يرعى الأغنام.

بعد اذان العصر بقليل عادوا أدراجهم صوب الصيرة وأدخلوا الأغنام ، وضعوا العشب لأربعة عنزات لم يأخذوهن لترعى بسبب أنهن وَلـَدنَ قبل بضعة أيام ويجب أن يرتحن الآن ويرضعن السّخـُول .

كان جائعا ، سألته خالته ماذا يريد أن يأكل على الغداء فحيرته ، أي نوع لحم يريد، فقد ذبحوا سخلا وبقي لحم منه مفرز ، أن أنه يريد أن تذبح له دجاجة ، ربما أربنب أو زغاليل ، لم يستطع أن يجيبها وقال لها كل شي من تحت ايدك زاكي ، على الصفحة (المنحدر) الشمالي لقريتهم توجد غابة خضراء كثيفة ، بنوا بين أشجارها خربوش ( بيت خشبي) متواضع وضعوا فيه سريرا ، وفوق شجرة المل بسطة أشبه بنقطة مراقبة ، كأنهم يعودون عشرات السنين في التاريخ حين تواجد في المنطقة الثوار وعند تلك الأشجار ربطوا خيولهم ، وبقي أحدهم يحرسها لينبههم إن اقترب الخطر ، كان محمد واقربائه يقضون أوقات الفراغ في الخربوش ويأخذوا قسطا من الراحة خارج البيت ويدرسون فيه أحيانا ، صعد الأرض الوعرة ليأكل لحم الزغاليل الطرية المفيدة للجسد مع شوربة الفريكة ، أكل وشبع ولم ينتهي يومه أو نشاطه ، قفز بين الشوك متخطيا الصخور والزرد ليصل السهل الشرقي للقرية حيث المكثاة ، مكثاة بطيخ تمتد لعدة دونمات ، كانوا أربعة ، قطف كل بطيخة وضربها بالأرض فتنكسر ، خضراء من الخارج داخلها أحمر حلو مرصع ببزر أسود ، استلقوا على الأرض وأكلوا حتى التخمة ، فلم يستطيعوا الحراك وبقوا مكانهم حتى المغرب وعادوا أدراجهم للبيت.

أكلوا وجبة العشاء وذهبوا للمسجد ليصلوا العشاء ، بعدها توجهوا جنوبي القرية القرية ليكملوا السهرة ، إلى المشحرة ، وهي كوم مشتعل من قرط الأخشاب يُصنع منه في النهاية الفحم الذي يستعمله الناس للكانون والتدفئة وشي اللحوم ، بقوا هناك وأكلوا البرتقال الحامض وشربوا الشاي بالنعنع على النار المشتعلة من أغصان يابسة مع رغيف زعتر مقرمش صنع في الطابون ، أكلوه مع زيت الزيتون والملح بالاضافة للبندورة ، بقوا حتى صلاة الفجر وصلوا في المسجد ، قرأوا ما تيسر من الذكر الحكيم وتوجهوا للبيت ليناموا بضع ساعات ويكملوا بعد ذلك يومهم.


كان هذا يوم في الريف الفلسطيني.

1 التعليقات:

هذه بلادنا اخي شادي :)
ما شاء الله احببتك كما دائما طريقتك في الكتابة والسرد

بارك الله بك والى الامام :)

إرسال تعليق