تحت عين الرقيب

وَمَنْ يَتهَيّبُ صُعودَ الجِبالِ ..... يَعِشْ أبَدَ الدهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ



يبلغ عبد الله من العمر عشر سنوات ، يعيش مع والديه وأخوته الاربعة في إحدى قرى الضفة الغربية بين قضائي طول-كرم وجنين، بمحاذاة الخط الأخضر الوهمي الذي جعل أحدهم يحمل الهوية الإسرائيلية وأخوه يحمل الهوية الفلسطينية ، الأول غرب الخط والثاني شرق الخط.

العلاقة بين طرفي الخط مضطربة بسبب الفعل ورد الفعل ، إحتلال وإعتقالات تقابلها عمليات تفجيرية ، إلا أن الحدود مفتوحة، فيعبر والد عبد الله الحدود ليدخل منطقة المثلث العربية، يدخل مدينة باقة الغربية ليقف على رصيف الشارع الرئيسي مع آلاف العُمّال من الضفة ينتظرون المقاولين من شتى أرجاء الوسط العربي ليأخذوهم معهم ويعملوا معا ، في غالب الأيام يجد آلآف العمال أماكن عمل ويحصدوا قوت يومهم فيعودوا عند غروب الشمس لبيوتهم في قراهم ويجلسوا مع أزواجهم وأولادهم ، ينتظرون بُزوغ فجر جديد ليقوموا بالعملية ذاتها ، تبعد باقة الغربية عن قراهم بضعة دقائق، فإما أن يعملوا في القرى العربية واليهودية المجاورة ، أو ان يسافروا مع المُقاولين الى المدن الكبيرة كتل-أبيب وحيفا، فيُسرّ العامل والمقاول وصاحب البيت ، كل واحدٍ منهم يشعُر أنه كَسَبَ وربح ، حتى صاحب البيت الذي يتم العمل به يدفع المال وهو فرحٌ ويعمل مسرورا بمكان عمله وماله.

تدهورت الحالة الأمنية وقُتِلَ الكثير من الطرفين إما رميا بالرصاص وقنابل الدبابات أو عمليات تفجيرية واطلاق نار، صرفت الحكومة الاسرائيلية ملايين الشواقل من ميزانية الدولة لتدعم الامن والامان، خصّصَت مبالغ طائلة لبناء جدار فاصل على الخط الاخضر الوهمي، فصلت بين شرق وغرب الخط، رقابة كثيفة على امتداد الجدار الذي التهم مآت الآف الدونمات التابعة لأهالي الضفة الغربية ، حجز الاف اخرى غربه، بعيدة عن أهلها واصحابها الشرعيين فأعطت الحكومة الاسرائيلية تصارحا لدخول الفلسطينيين للعمل ، ولم يحصل الجميع على هذه التصاريح انما هم قلة ، في موسم الزيتون يُعطى أصحاب الارض غرب الجدار تصريح زيتون ليقطفوا ثمار أشجارهم الطيبة الفارعة ثابتة الاصل في الارض منذ سنين قبل الجدار وقبل قيام الدولة ، فجذورها تمتد في أعماق الأرض تماما كجذور اصحابها الذين ورثوها عن آبائهم وأجدادهم الذين جدوا وكدوا ، زرعوا وحصدوا الأرض ، أكلوا من طيبات ما رزقهم الله بعد أن سقاهم الله من السماء ماء مباركا فاحيا به بلدة ميّتة.

خرج عبد الله ليلعب البنانير مع اترابه في الحي بعد أن عاد من المدرسة ، رفض تناول الغداء لانه ينتظر والده حتى يعود مساء من العمل ويأكل معه، فاز على أترابه وأخذ بنانيرهم ليضمها للكم الهائل من البنانير في جرار خزانته، أخرج الدفاتر من حقيبة المدرسة وحل الوظائف، خرجَ وجلس على شرفة بيتهم الغربية مع غروب الشمس خلف السهول المنبسطة في السهل الساحلي، رأى رجلا يتقدم سيرا على الأقدام في الطريق الترابي المؤدي لبيتهم، أحسّ أنه والده فركضَ صوبه وقبّله ضم يده الصغيرة ليد والده الخشنة لعمله الشاق، دخلا البيت فاستقبلتهم أم عبد الله وقبلها زوجها بجبينها مودّة وتقديرا لتربيتها أبنائه كما أرادهم أن يكونوا ولإدارتها شئون البيت في ظل غيابه وعمله، قبلها لانها نعم الزوجة، نعم الأم، الكنة والإبنة، إختارها لأنها ذات دين وخلق، جميلة ومن عائلة ملتزمة، وجد الطاولة محضّرة بطعام شهي وإن افتقدت طاولتهم أحيانا للحوم ، تُعِدّ ما تجِد وما زرَعَت هي في الحقل كالملوخية والفول والفاصولياء ، بجانب بيض من قن الدجاج الخاص بهم ، جبنة أعدتها هي من حليب غنمتهم، خيار وبندورة من دفيئة الجدّ ، مائدة لذيذة بعد يوم طويل مرهق ، بمشاركة الزوجة المُخلصة والأولاد بارّي الوالدين منذ طفولتهم.

أنهى طعامه وحمد الله الذي اطعمه ورزقه هذا الطعام من غير حول منه ولا قوة ، دخل واستحم ، لبس ملابس نظيفة تفوح منها رائحة الحب، العطف والحنان ، جلس أمام المرناة ليشاهد الأخبار فطلب منه ابنه أن يغير المحطة لمشاهدة فقرة الرسوم المتحركة المسائية فقال له بعد بضع دقائق تنتهي الأخبار والوضع السياسي الإجتماعي متقلب يجب متابعته ، تفهم ابنه ذلك وانتظر حتى انتهت الأخبار وشاهد الرسوم المتحركة مع باقي اخوته وعبد الله كذلك، شاركهم والدهم المشاهدة وحدثهم امور كثيرة فاستمعوا له وأكملوا حديثهم بعد إنتهاء الفقرة ، انضمت الام التي طلبت من زوجها اعطاء أدهم الابن الثاني بعد عبد الله عملة نقدية لتفوقه في دراسته ، ولمحمد كذلك فقد أتم حفظ جزء عم وهو ابن ستة أعوام ، أما أختهم خديجة وهي البكر تكبر عبد الله بسنة واحدة فاجأت الجميع حين طلبت من أمها أن تشتري لها لباسا شرعيا ، قررت أن تتحجب، ربما تفاجئ أهلها خاصة في سنها ، إلا أن الجيران لم يستغربوا ذلك إذ أن هذا البيت الطيبب عُرف بتدينه والتزامه، فأعطى أبو عبد الله زوجته المال فورا لشراء حجاب شرعي لابنته بعد أن تأكد من فهمها لهذه الخطوة التي خطتها وقررتها وأنها مصممة وواثقة بنفسها ، فقبّـل أولاده واتضن صغير البيت علي الأخ الرابع لعبد الله وسأله وانت ماذا صنعت لتحصل على مكافأة فضحك علي ابن السنتين بحبك يابا وبحب ماما وأخوتي ، فشدّ حَضنه وقبله بحرارة ، أما أم عبد الله فقالت " مخلصناش يا أبو عبد الله ، وأنا بدي هدية بس محرزة يا ابن عمي " فسألها هم قصدها ، فردت " أنا والحمد لله حامل" ، رد مسرعا " عنجد ؟؟؟ الف الحمد للخ الك يا رب ، الف الحمد لله ، يسلم ثمك والبطن الّ حملك، يا الله ما أحلى الأولاد ، نعمة من ربنا ، يلاّ البسوا خلينا نروح نبشر ستكم يا أولاد ، يلا يا أم العبد خذي الاولاد عند أمي وأنا بدي أروح أصلي العشاء في المسجد وبلحقكم" ، طبع قبلة على جبينها ويحمد الله أن رزقه زوجة صالحة وأبناء بارين.

صلى أبو عبد الله العشاء وجلس مع ابناء حارته قليلا بعد الصلاة ، تداولوا الوضع الراهن وأجمعوا أن الحال في المنطقة سيكون أصعب ، وان السلطة ستشدد الخناق عليهم أكثر ، خاصة حين يتم بناء الجدار الفاصل وإصدار التصاريح ، حينها قد لا يجدوا مصدر رزق يكسبوا منه قوت يومهم ، وأولادهم صغار كعصفور في عش لم يتعلم الطير بجناحيه ينتظر عودة أمه لتلقمه الطعام ، وسألوا الله ودعوه أن يُسهّل الحال ويفرج كربهم.

دخل بيت والديه العتيق المبني من الحجر والطين ، سلّم على أمه وقبل يدها وجبينها ، نظر إلى الزاوية اليمنى حيث فرشة ، مسند ومخدّة فقال " الله يرحمك يابا ، اشتقتلك ، اشتقت لقعداتك وكلامك ، الله يرحمك ويدخلك الجنة" ، كانت تلك زاوية يجلس فيها والده عبد الله الذي توفي قبل شهرين اثر مرض عضال ، لكنه أورث أولاده الالتزام والتدين ، الأخلاق وحب الأرض ، أوصاهم بأمهم وأن لا يتركوها وحيدة ، ولم يتركوها فيبقى عندها أحد أحفادها ، فقد زوجت أولادها التسعة وقسمت الورثة عليهم وعلى اخواتهم ولم تظلمهن.


بشر أمه بحمل زوجته ، ففرحت وقال " الله يرضى عليك يمّا ، الله يوفقك ويسعدك ويهنيك ويخليلك مرتك وولادك ، ويجعل طريقك خضرا" ، عاد لبيته لينام ويحضر نفسه ليوم عمل طويل آخر داخل الخط الأخضر.

خرج أبو عبد الله من بيته وصلى الفجر جماعة في المسجد ، استقل سيارة أجرة ليصل مدينة باقة الغربية ، التقى بمقاول تركيب سقالات ، ركب معه وتوجها صوب رأس العين ، بدأ يعمل بنشاط ليكسب لقمة عيشه بعرق جبينه ، عمل بجد ، تناول الغداء من زوادته المتواضعة التي أعدتها زوجته ، توضأ وصلى الظهر وعاد للعمل.

جلس عبد الله على الشرفة ينتظر عودة والده كعادته ، تأخر والده ولم يعد للبيت وقلق الجميع ، سألوا عمال البلد فأجابوا أنهم رأوه آخر مرة في الصباح حين خرج مع المقال، بكت أمه الحنون وقالت " وين رحت يا ابني وليش بدك تحرقلي قلبي " ولم يكن بعادته أن يتأخر ، وإن تأخر يتصل بهم ويخبرهم ، فجأة هدأ الجميع ، جاء شخص يبحث عن بيت أبو عبد الله ، انه محمود من جت أخ المقاول الذي عمل معه أبو عبد الله ، سألوه ودموعهم تنهمر اين أبو عبد الله ، شو صرلهُ ، زوجته تكاد يغمى عليها ، قال لهم أن أبو عبد الله قد سقط عن السقالة ، فصرخوا " مات ؟ " فقال لا لم يمت ، وضعه خطير لكنه مستقر ، يركض في قسم العناية المكثفة في مشفى في بيتح تكفا ، وجاء ليأخذ أحد أقاربه ، ذهب أخوه وزميله في صلاة الجماعة ، لحقت بهم أمه وزوجته صباح اليوم التالي ، يرقض والأجهزة تلف به ، قالت أمه : الله يرضى عليك يما ، سلم على أبوك" ، فصرخت زوجته " لع ، أبو عبد الله بدو يعيش ممتش " حضنته ونزلت دمعة حارة على يده الباردة ، وجهه يُشعّ نورا فقد سلك درب الصالحين ، بقي على حاله عدة أيام زاره خلالها كل أهل القرية تقريبا ، وأبنائه كذلك ، أعطاه الطاقم الطبي الأدوية وحاولوا أن يفطموه من جهاز التنفس ، وإذا به يفتح عينيه ، يتمتم بعض الكلمات ، تمتم وقال " الحمد لله ، أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمد رسول الله " ، رُسِمت إبتسامة على شفاه الحاضرين ، حمدوا الله على نعمه ،خرجوا وبقوا جانبا بضع ساعات كي سيتفيق كما يجب وكي لا ينفعل ، ناك قليلا ثم استفاق وعائلته حوله ، بكى فرحا لرؤيتهم وحزنا على حاله ، بقي في المشفى عدة أشهر ، واتضح أنه أعيق جسديا نوعا ما ، لم يعد قادرا على العمل الجسدي ، يمشي بمساعدة عكازين ، يصلي جالسا على الكرسي ، لم يدرس أي شيء من قبل وطوال حياته عمل أجيرا ، لم يدّخر المال الكثير ، عاد لقريته وبيته ، يتنقل بين بيته ، المسجد وبيت وبيت والده ، لا مصدر رزق ومال لديه ، بقي على ههذا الحال مدة 4 سنوات ، قامت خلالها زوجته بتدبر أمور البيت ، باعت الجبن والحليب ، البيض والملوخية ، ساعدها أولادها بعد الدوام ، انجبت ليلى وعمرها الان ثلاث سنوات ، أكمل ابنائهم الدراسة وحفظوا سورا أخرى من القرآن الكريم ، محمد أتم حفظ القرآن بمساعدة الوالد " المعاق" في البيت والمسجد ، كبرت خديجة وبدأت تنهال عليها عروض الزواج الا أن والدها رفض ، توسعت العائلة وازدادت مطالبها ، فجاء عبد الله لوالده فطلب منه السماح له بترك الدراسة والتوجه للعمل في اسرائيل ، رفض والده ذلك وقال له أن يبقى في المدرسة ، ألحّ عبد الله فرضخ والده لحالهم الإقتصادي ، فسمح له بذلك ، سمح له وهو خائف من الوضع الامني ، فقد بنت الحكومة الاسرائيلية جدارا فاصلا بين اراضي 48 والضفة ، ومن يدخل الأراضي الاسرائيلية من الضفة بلا تصريح رسمي من السلطات الاسرائيلية يتم اعتقاله وضربه ، قد يُسجن وفي حالات يُرمى خلف الجدار شرقا ، ابنه صبي يبلغ من العمر اربعة عشر عاما ، لم يذق مر الحياة والشتات بعيدا عن الأهل ، قرر الخروج بعد صلاة العشاء ، كي يسافروا ليلا بعيدا عن أعين الجيش الاسرائيلي.

انطلقوا جنوبا صوب رام الله حيث فسحة في الجدار الفاصل بين كروم الزيتون ، يركضون بين شجرة وأخرى خوفا من الجيش ، نجح وعبر منطقة الحرام حيث انتظرت سيارة مَن مرّ مِنَ العمال لتنقلهم لمنطقة المثلث ، وصل مدينة الطيبة والتقى بمقاول عَمار ، قرر العمل معه داخل المدينة في ورشة تبعد بضعة كيلومترات جوا عن بيته ، ويصلها بأقل من نصف ساعة قبل بناء الجداء، أما الان بعد بناء الجدار فتصل مدة الطريق خمس ساعات تقريبا ، عمل منذ الصباح حتى المساء ، حصل على مبلغ زهيد نسبيا لمدة العمل والجهد ، لكن الضرورة الحت عليه ليعمل ، نهاية كل شهر أرسل مبلغا من المال مع أحد العُمّال من قريته حين يعود للقرية ، لم يملك هاتفا ليتصل بهم ، بقي مدة ثمانية أشهر يعمل دون أن يرى أهله ، حتى أمسك به حرس الحدود صباحا حيث توجه لورشة أخرى في الطيبة مع المقاول ذاته ، لم يعلم المقاول ما حصل مع العامل ، لماذا تأخر ، فأخذ يبحث عنه في شوارع المدينة ، شرق المدينة حين ينام عمال الضفة بين كروم الزيتون ، فراشهم التراب وغطاءهم السماء ، منهم من أخذ فراشا من المواطنين طيبي القلب ، وفي حالات استثنائية حصلوا على الكهرباء ليُشغّلوا البراد ويحفظوا الأكل القليل الشحيح الذي معهم ، منهم من وجد بيوتا طور البناء ليسكنوها وقد يطردهم صاحب البيت حين يراهم ، والجيش يبحث عنهم في كل زاوية وزقاق ، يركضوا في منتصف الليل هربا من حرس الحدود إن كشفوا مكانهم.

رأى المقاول عبد الله وحرس الحدود يفتشونه ويسألونه عن هويته ومِن أين هو ، لم تكن اللغة عائق ففي جيب حرس الحدود جندي بدوي وآخر درزي ، فحين عرفوا أنه من الضفة ضربوه ضربا مبرحا وألقوه عند معبر جبارة المحاذي لطول-كرم، لم يملك المال ، فقدْ بَعثه لأهله ، قلق المقاول ، فلم يهمه أمر ورشته إنما أراد معرفة ما حصل مع عامله النشيط ، سأل عنه فاجاب من عرف عبد الله من عمال بلده أنه وصل بيت والديه وعولج بسبب الكدمات والضربات ، طلب منهم أن يُوصلوا له مبلغا من المال عبارة عن أيام عمله ومبلغ آخر هدية تقديرا له على عمله وجدّه بعد أن روى له قصته.

وصل عبد الله قريته بعد أن مشى اليها مدة النهار الصيفي ، وصلها وارتمى في ساحة البيت خائر القوى، صاحت أمه حين رأته وأدخلوه البيت ليرتاح وطلبوا من الطبيب المداوم في القرية الحضور لعلاجه ، واستفاق ليجد نفسه بين أهله ، أخبرهم بما حدث معه فقالوا له أن يبقى في البيت ولا يعود للعمل، فحالهم تحسّن بعد أن بعث لهم المال ، فقد اشتروا غنمة أخرى ودجاج ، زرعوا الأرض وباعوا الحصيل ، أخوته الصغار يساعدون أمه بالحقل وأخته تقوم بعمل البيت ، بقي أسبوعين في البيت بعد أن لم يأكل منه مدة طويلة في غربته حيث اكتفى بالحمص واللبنة من الدكان ، قد يجلب له المقاول طبيخا وربما أهل البيت الذي يبنون ، وجد مكانا يقضي به حاجته فيه بعد أن قضاها بين الأشجار ، أحس أنه يعيش بين أهله ، اطمأن على اخوته ودراستهم ، أخته ستبدأ دراسة التوجيهي ، فرح لذلك وقرر أن يقوم هو كذلك بالدراسة وانهاء الصفوف التي تنقصه ، تحدث مع مدير المدرسة واتفقا أن يأتي فقط للامتحانات بسبب وضعهم واضطراره للعمل ، كان تلميذا ذكياً.

جاء وقت المساء وأتى أهله مخبرا ما اتفق مع المدير وأنه يعزم العودة لإسرائيل ليعمل ، وهذه المرة سيخرج من منطقة الغور شرقا ، قاصدا العمل في أم الفحم ، بكى أهله خوفا أن يُلقى القبض عليه مجددا وأن يُضرب ، إلا أنه قال أن لَن يصيبه الا ما كتب الله له ، فأطلقوا سراحه وسمحوا له ، رضت عليه امه ودعت له من كل قلبها ، خرج ووصل الغور بعد ساعتين داخل الضفة الغربية ، درجة الحرارة تجاوزت الأربعين ، مرّوا من الحدود المفتوحة ودخلوا أراضي دولة إسرائيل ، عددهم عشرين عاملا ركبوا سيارة تتسع لاثني عشر شخصا ، جرى عرقهم كسيل مطر، فالحرارة وضغط الركـّاب، سرعة السائق كي لا يمسك به بالجيش أو الشرطة ، لا هواء ، صعوبة بالتنفس يكادون يختنقون ، يعلمون المخاطر، حادث طرق أو أن يمسك بهم الجيش فيضربهم أو يسجن من أصدر بحقه أمر منع دخول الأراضي الاسرائيلية ، يعرفون هذا ولكن كما قال أحدهم " ما بجبرك على المُر إلا إلي أمَر مِنّه " ، فمر الحياة أجبرهم المخاطرة بأنفسهم.
وصل عبد الله أم الفحك وتعرف على مقاول بلاط من معاوية المجاورة لأم الفحم ، عمل معه مدة ثلاثة أعوام عاد خلالها مرة كل شهر لأهله، اعتبره جمال المقاول أحد أولاده،أسكنه في بيت يجهزه لابنه أطعمه من طعامه ، أعطاه إستراحة عند إمتحانات الدراسة والتوجيهي ، تقدم عبد الله لإمتحانات التوجيهي ، حصل على معدّل علامات ممتاز فاجئ الجميع ، لم يتوقعوا منه ذلك إذ أن المواد قد درَسَها وحده بلا مساعدة أحد ، وقد عمل بعيدا عن بيته ، بعيدا عن دفئ وحنان أهله.
قام بعدة مشاريع من أموال عمله، فأمه واخوته الصغار تكفلوا بمصاريف البيت ، أما ما كسب هو فقد ع
مّر بيتا ، علم اخوته ، أتمت خديجة التوجيهي وبدأت تدرس الشريعة في قلقيلية وتزوجت إمام مسجد قريتهم.

تسجل عبد الله لدراسة الإقتصاد في جامعة طول-كرم ، ركز برنامجه أن يحضر المحاضرات الإلزامية ، والعمل باقي الأسبوع ، أنهى دراسة الأعوام الثلاثة وأتم بناء البيت ، قرر الراحة في بيتهم ، تحدث مع المقاول على أنه لن يُكمل العمل معه ، شاكرا إياه على حُسن معاملته شارحا له أنه سيستقر مع أهله ويبحث عن عمل في الضفة بموضوع إختصاصه ، بقي على حاله شهرين ، لم يعمل ، شعر بحرج شديد ، فقد تقدم للتوجيهي دون حضور الدروس ، في الجامعة تفوق رغم انه كان يعمل في نفس الوقت ، فظن ان الحياة ستبتسم له ، تطلع أهله لمُستقبل زاهر وعيشة كريمة بلا تعب كوالده ، خاب أملهم وظنوا أنه سيُكمل حياته كعامل ، تذمروا وأحسوا أنه أضاع المال عند امتحانات التوجيهي والجامعة ، وأنه أفضل لو لم يدرس ، فغضب لذلك وقرر العودة لمعاوية حيث أحبوه ، رغم أن المقاول هناك زوج ابنه في البيت الذي نام فيه عبد الله سابقا ، في طريقه مرّ مِن جنين ، مَكثَ فيها يومين ، أراد السفر مباشرة للأراضي الاسرائيلية إلا أن أمرا استوقفه هناك ، بعد انقضاء اليومين دخل ووصل معاوية ، زار المقاول فوجده مشغول وعمله مزدحم ، فحدثه قصته وأنه لم يجد عمل ، فجاء إليه ليعمل عنده وحدّثه أمور أخرى ، فرفض المقاول أن يعمل عبد الله عنده وابتسم ابتسامة عريضة.

عاد عبد الله لقرى الضفة عبر حاجز الجلمة الشمالي ، دخل جنين وهو متشوق فرح خائف ، بقي بضع ساعات فيها وعاد يركض لبيته ، دخل واخوته شباب قد أقبلوا على التوجيهي ومنهم من أنهى ، أخته أنجبت عبد الرحمن ، طفلها البكر، أهله في حالة فرح إلا أنهم حزينين لأجله ، سألوه عن سبب عودته باكرا وهو مسرور فأجابهم.

قال لهم أن حياته تغيرت عندما قرر العودة لهذا المقاول ، أخبرهم أنه في طريقه لمُعاوية بقي في جنين يومين إذ رأى فتاة تدرُسُ في كلية المدينة فأعجبته فتتبعها وأعجب بخلقها ، سأل عنها فأجابوه بأنها من عائلة مُلتزمة وتالي العنقود عند أهلها إذ أن اخوتها وأخواتها تزوجوا جميعا ، أخبروه أنها تدرس في السنة الأخيرة لتُصبح معلمة مدرسة ، حدّثوه عن دينها وخلقها ، بقي وتعرّف على والدها في الصلاة فأغرته طيبة قلبه ، خرج لمعاوية وأخبر المقاول بحاله وأنه أنهى تعليمه وعمر بيته ويود الخطبة من هذه الفتاة ، فأراد العمل بضعة أسابيع ليجمع المال ويخطبها ، فرفض المقاول وابتسم ، ابتسم إذ أنه عرض على عبد الله العمل بموضوع دراسته الإقتصاد في شركة ابن خاله في جنين مع راتب ممتاز ، فذهب لجنين مجددا وأخبرهم عن حياته وما مر به من صعوبات ، فقبله صاحب الشركة والمستشارين للعمل وأعطوه مقدمة من راتب أول شهر كي يخطب الفتاة وقد حدّثهم قريبهم من معاوية عن دين وخلق ، صدق وإخلاص عبد الله.

لذلك عاد لأهله فرحا يضحك ، رضوا عليه وقبلوه ، قالوا له هكذا عهدناك يا عبد الله مسؤولا في ما تعمل ، ولأنك صدقت مع الله رزقك من حيث لا تحتسب مالا ورزقك زوجة صالحة بإذن الله ، الله يرضى عليك يا إبني.

تزوج عبد الله وعاش بسعادة مع زوجته أم سعيد، على إسم والده المضحي بحياته لأجلهم ، نعم أنجبت زوجته طفلا سليما معافى ، أنهت دراستها وعملت في مدرسة القرية ، عمل عبد الله في جنين وترقى ، إزداد راتبه وتضاعف ، طلب من أمه أن تزرع ما هم بحاجته وأن لا تتعب نفسها وتبيع ، قرر أن يعوضهم هم هذه السنين الصعبة ، عمّر بيوتا لإخوته ، علمهم في الجامعة وتخرجوا ، حفظوا أجزاء كثيرة من القرآن الكريم ، نجحوا في حياتهم كأخيهم ، مُصعب فاز برئاسة المجلس المحلي، أختهم البكر خديجة تـُدرّس الشريعة في الكلية بعد أن حصلت على لقب ثان في الشريعة وأنجبت خمسة أطفال بينهم توأم ذكور ، مُحَمّدْ الذي يصغر عبد الله بأربع سنوات درس الشريعة في الأردن وحصل على الدكتوراة بتميز ، علي أنهى دراسة القضاء في جامعة القدس، أما صغيرة البيت ليلى التي تصغر عبد الله ب 11 عام فتدرس سنة أولى علم إجتماع في جنين فتسافر يوميا مع عبد الله وتعود معه حين يُنهي عمله ، فراتبه المرتفع أتاح له شراء سيارة وتحمل مصروف بيته وبيت والده وتعلم إخوته ، وهم بدورهم ساعد أحدهم الآخر، كيد واحدة وجسد واحد هم ، خطبت ليلى إبن مدير الشركة التي يعمل فيها عبد الله ، تزوجت بعد أن أنهت السنة الثانية ، لم تكن لديها مشكلة فبيتها بجانب الكلية ، وزوجها دعمها وحثها على الدراسة والنجاح.

جلس سعيد " أبو عبد الله" مع زوجته الحبيبة " أم عبد الله" وحدهم على الشرفة المُطلة غربا يرتشفان كأس من الشاي ، والشمس تغرب ، قال لها " بتتذكري لما قعدنا هون أنا واياك بعد العرس بأسبوع وشربنا كاستين شاي ، وقتها أنا قلت إني مِرضي ربي ومرضي والدي ، وحمدت الله أنه رزقني إياك زوجة صالحة ودعوته أن يرزقنا ذرية صالحة وأبناء بارّين ، الحمد لله استجيب دعائي، ألف الحمد لله الك يا رب" ، قبّلها بجبينها فقالت " الله يخليلي إياك يا أبو عبد الله ، إنت سند ظهري ، رغم الحياة الصعبة إلا إني بحمد الله إنك زوجي، لأنك ما أزعلتني بحياتك وما ظلمتني ، فلهيك أنا مليحة لأنك إنت مليح، الله يخليلي إياك يا رب ".

كانا منسجمين في الحديث فعكـّر مزاجهما صوت الجرس ، وإذا بهم أحفادهم أتوا لزيارتة الجد والجدة الحنونين.



***
- أحداث القصة واقعية من حيث أنها تحدث في قرى الضفة عند كثير من العائلات مع تفرق الأحداث وتقسمها ، حاولت جمعها هنا في قصة واحدة وشخصية واحدة .
- كل علاقة مع الواقع سواء بالأسماء أو المهنة أو الأحداث هو صدفة وليس مقصود ، وذكرت المدن والقرى لتعطى القصة رونقا وواقعية.












1 التعليقات:

السلام عليكم

قصة واقعية تحدث كل يوم في صور وشخصيات مختلفة
ولكن للاسف ليست كل النهايات سعيدة كتلك التي سردت..
فغالبيتها تنتهي بضياع الابناء وخرابهم وهذا عيّنة بسيطة مما نتعامل معه على ارض الواقع
...
أسأل الله تعالى ان يفك همّ جميع المسلمين ويرزقهم جميعا من حيث لا يحتسبون

بارك الله فيكم

مسلمة

إرسال تعليق