تحت عين الرقيب

وَمَنْ يَتهَيّبُ صُعودَ الجِبالِ ..... يَعِشْ أبَدَ الدهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ




صباح يوم السبت ، الثامن والعشرين من شهر شباط ، وصلنا خبر صاعق بوفاة نعيم محمد أبوفرخ ، شاب في ريعان شبابه سعى لجلب قوت يومه ، عرفته منذ سنين كثيرة بحكم جيرتنا في باقة الغربية، دخلت عالمه الداخلي منذ ثلاثة سنوات حين بدأت أدرس في جامعة القدس العبرية، قدمنا للقدس وعدنا معه، عمل سائق سفرية عند اخيه عادل، جدّ وكد، عمل منذ الصباح وقبل طلوع الشمس حتى وقت متأخر بلا كلل أو ملل ، جمع المال وعمل لانهاء بيته وتجهيزه ليخطب له زوجة، قطع شوارع البلاد وتحداها فصدمته وصرعه الشارع بحادث قاتل صباحا مع بزوغ فجر جديد حين صدم شاحنة ثمانية كيلومترات شمالي باقة بعد أن أوصل طلاب لمدرستهم في وادي عارة وعاد وحيدا ليكمل عمله إلا أن حالة الطقس وأمطار الخير والبركة اتحدت وتوفي بعد انزلاق سيارته ، إنتهى أجله في هذه اللحظة فلا يستأخر الانسان ساعة ولا يستقدم.



شارك نعيم يوم الجمعة بتشييع جنازة الحاج مصطفى بديع أبومخ رحمه الله ، بعد أن صلى الجمعة في مسجد الصراط، لم يكن يعلم أنه بعد اربع وعشرين ساعة ، عند صلاة الظهر من يوم السبت سيشيّـَعُ جثمانه هو ، كانتا جنازتين مهيبتين ، رحمهما الله وأدخلهما فسيح جناته.



صباح يوم السبت، التاسع من أيـّار ، خرجت في جولة أجوب شوارع باقتي ، زرت صديقا وقريبا ، وقررت أن أزور من سبقونا ونحن بهم لاحقون ، توجهت عند مفرق الشبرة شرقا ودخلت المكان، قلت السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم السابقون ونحن بكم ان شاء الله لاحقون ، دخلت المقبرة الجنوبية من البوابة الشرقية حتى وصلت جنوب المقبرة، نزلت من السيارة ومعي الكاميرا ، نظرت يمينا حيث قوالب الجديدة، تذكرت كيف حملنا النعش ودخلنا بين اكتظاظ المشيعين لنصل القبر ، لم نتمكن من السير بالنعش فقمنا بتناقله ، أرض موحلة وعيون تدمع بل تسيل ، دهشة وصدمة تملأ المكان ، صدمة لم تغسلها ولم تزلها الامطار الغزيرة التي هطلت ، أخوة يبكون أخاهم الشاب الحالم المتطلع لمستقبل زاهر ، يبكونه بعد أن خــُطف كلمح البصر، يبكوه بعد أن بكوا أباهم قبل عام تقريبا ، دُفن على بُعد بضعة أمتار من قبر والده ، شاب التفوا حول القبر، كــُثر منهم لم يدخلوا المقبرة قبل ، لأول مرة يرون لحدا وانسانا مسجا في كفن أبيض ، ساعات بعد أن كان بينهم ومعهم، فدخلوا المسجد ولم يدخلوه من قبل ، التزموا في صلاة الجماعة ، كان الموت لهم واعظا ، بعد مدة أكمل قسم منهم وحافظوا على صلاتهم وثبتوا ، واخرون كان التأثير عليهم محدود الوقت وعادوا لغفلتهم.



تم الدفن ولقنه الإمام ، قرأنا الفاتحة على روحه ولم يتحرك أحد ، بقي الجميع متجمدين مكانهم لا يحركون ساكنا من هول الموقف، لا أحد يصدّق ، أفعلا انتهى عهد نعيم بيننا ؟ أفعلا لن نراه في هذه الدنيا ؟ احلام وحياة تبددت ! هل هذه هي الدنيا ؟ أهي قاسية لهذه الدرجة ؟ نعم هي كذلك ولكلّ نفس أجل ، فالموت كأس سيشرب منه بني البشر أجمعين فكل شيء هالك إلا وجهه، كل شيء هالك إلا الخالق الخالد الله تبارك وتعالى.



اصطف اخوته الاربعة يصافحهم المشيعون ويعزوهم بوفاة شقيقهم لا يتمالكون أنفسهم ، يبكون والدموع تنهمر، أمطرت السماء بشدة فانتقلنا تحت سقف داخل المقبرة فسلـّمتُ على اخيه عادل وبكيت مرة أخرى بعد أن بكيت عند الدفن ، وبعد أن عزاهم جميع المشيعين انتقل الجمع الى ديوان باقة الغربية حيث بيت العزاء وأقيم بيت عزاء مشترك مع الذي افتتح للحاج مصطفى أبومخ رحمه الله ، وهذه وقفة يــُشهد لها من أهلنا في باقة، أبناء عائلات باقة أخوة في الله ، فكان العزاء عزاء كل أهل باقة وليس لعائلتي أبومخ وأبوفرخ فقط ، فأسأل الله أن يبقى أهل باقة يدا واحدة قوية صلبة في كل المواقف ، جميلها وتعيسها.



التقطت صورة للقبر من بعيد ثم اقتربت وجلست على مقعد بمحاذاة القبر من الغرب ، اي عند رأس المتوفى ، جلست وإذ بي أتحدث فبدأت بطرح السلام والتعريف بنفسي ، احدث نعيم كأنه أمامي وأقول " بتتذكر لما قعدنا وحكينا ، بتتذكر شو قلنا ؟! كل الطلاب مشتاقينلك، محدا مصدق شو صار ، الله يرحمك يا نعيم ويدخلك الجنة".



تحدثت كثيرا وتذكرت أمور عدة كثيرة ، تذكرت أيام قد خلت تذكرت قوله في اخر مرة رأيته ، قبل وفاته بيومين حين قال ان لا احد يعلم متى يأتي اجله ، فأحدهم يتوفى بحادث سير وآخر يموت قتلا ، إبتــَسَمَ طوال الطريق في عودتنا وحين نزلت من السيارة أعطاني حقيبتي وقلت له " تفضل" فرد مبتسما أنه يريد أن يكمل الطريق ، يوصل الطلاب، وتوجهت صوب البيت ، كان ذلك عصر يوم الخميس السادس والعشرين من شهر شباط.



التطقت صورا عدة ومن زوايا عدة ، لاضعها في عدة صفحات علها تكون ذكرى للبشر ليعتبروا ، التقطت الصور لقبره وللمقبرة بشكل عام، وبعد التقاطها عدت اليه وقلت له أني ذاهب، قلت له أني سأسافر مساء اليوم الى القدس ، وقلت له أننا نفتقده فقد اضاف جو مرح جميل لسفرنا القدس وعودتنا، زرت قبورا أخرى لاقرباء ، قلت لهم آنس الله وحشتكم وأدخلكم الجنة وغفر لكم ذنوبكم، على أن أعود لاحقا لزيارتهم، قد أعود لزيارتهم ماشيا على قدميّ أو أن أعود محمولا على الاكتاف ليزور قبري من أحبني من أحياء هذا العالم.



رحمك الله يا نعيم وأدخلك فسيح جناته.






1 التعليقات:

سلام ربي عليكم ...

رحمه الله وثبته عند المسألة !
أعان الله اهله واحباءه والهمهم الصبر والسلوان ...

..............

إرسال تعليق