الحفل يوم الثلاثاء، بدأت سعاد تجهز نفسها لذلك اليوم ، كتبت على ورقة مسودة كلمتها ، اشترت ملابس جديدة ، وهي ملتزمة باللباس الإسلامي ، دعت أخوتها وأخواتها وكل العائلة ، تذكرت والديها المتوفيين وسألت الله أن يرحمهما ويدخلهما الجنة ، ودت لو أنهما معها ، كانت تكلم نفسها وتقول انا مكملة كيف ربيتوني يابا ويما ، رافعة راسكم مثل ما قلتولي ، الحمد لله ، الله يرحمكم .
صباح يوم الأحد استفاقت سعاد وأحست بتعب شديد ، أحست أن جسدها مثقل ومجهد ، لا تستطيع الحراك ، ضيق بالنفس وسُعال ، زوجها يدخن السجائر داخل غرفة النوم وفي زوايا البيت ، ظنت أن ذلك هو السبب ، إلا أنها قالت لا ليس الدخان هو السبب فقد اعتدت فانا متزوجة منذ ثلاثين عاما ، وأهملت الموضوع ظانة أنها حالة عرضية وستختفي بعد ساعة أو يوم بعد أن ترتاح قليلا ، واستمرت بالتجهيز للحفل ، ونامت ذلك اليوم وهي تفكر كيف ستقف أمام الجميع للمرة الأخيرة وتودعهم تاركة الأمانة بأعناق من سيخلفها ويحل مكانها ، وطالبت الإدارة أن يختاروا إنسان يتحمل المسؤولية ، يوصل المادة للطلاب ويرشدهم ويكون قدوة لهم.
صباح يوم الإثنين كان صعبا عليها ، فقد سقطت أرضا عندما قامت لتتوظأ وتصلي الفجر ، زوجها خرج قبل بضع دقائق للمسجد ومن هناك سيتوجه للعمل في العمار ، لحسن حظها فان ابنتها الصغيرة لم تتزوج بعد وما زالت في البيت ، فقد زوجت سعاد ثلاث بنات وابنين ، بقيت أسماء ابنتها الصغيرة ، سمعت أسماء صوت أمها تصرخ ، فتوجهت صوب بيت أخيها أحمد وطلبت منه الحضور حالا ، جاء على عجلة بملابس النوم ، رأى أمه على الأرض تكاد تختنق ولا تقدر أن تتحرك ، حملها الى سيارته ، نقلها الى المشفى على عجلة ، أدخلها غرفة الطوارئ ، فحصوا لها الضغط والنبض والأوكسجين بالجسم ، وجدوا ضغطها مرتفع وحرارتها كذلك ، في حين انخفضت نسبة الأوكسجين في الدم ، وضعوا لها " قناع" أوكسجين فتحسن نفسها ، أعطوها مسكنات إذ اشتكت من الام حادة في بطنها ، تحسن حالها مع دخول أشعة الشمس مشرقة غرفة الطوارئ ، أخذ الطبيب المناوب لها فحوصات دم وأراد تحويلها لغرفة في قسم الأمراض الباطنية ، لكنها رفضت ذلك كي لا تضيع حفل التكريم ، وصل ابنها لحل وسط مع الطبيب يقضي بأن تصعد للقسم وتــُسجل هناك على أساس أنها مريضة في القسم ، وتحصل على تصريح ، اذن خروج ، ليومين وتعود بعدها لإكمال الفحوصات اللازمة على شرط توجهها لقسم الطوارئ مباشرة إن حصل لها أي طارئ ، وافقت ومضت على تعهد وخرجت من المشفى بعد صلاة الظهر.
عادت إلى البيت بعد أن تركت رقم زوجها ورقم ابنها ليتم اخبارهم بأي مستجد ، أخذت قسطا من الراحة ، أخبرت زوجها بما حدث معها بعد عودته من العمل ، فقلق جدا ولم يرق له الأمر وبدأت الشكوك تجول في خاطره ، في حين تفكر زوجته بالحفل ولم تعطي للفحوصات حيز من تفكيرها سوى قلق بسيط.
لبست المدرسة حلة جميلة يوم تكريمها ، فقد رفضت أن تقام الحفلة خارج المدرسة ، زينت الساحات والممرات ، احضرت المشروبات الخفيفة والحلويات ، اجتمع الطلاب وجمعوا مبلغا من المال واشتروا هدية رمزية منهم لمربية صفهم وحاملة همومهم مدة عامين ، ركبت السيارة مع زوجها وابنتها وتبعهم باقي أفراد العائلة واخوة زوجها واخواته وأمه وأبيه ، أحبوها كلهم ، فهي حنونة رقيقة ، ملتزمة خلوقة ، في الطريق مروا بمقبرة القرية ، طلبت من زوجها التوقف هناك ، فسأل عن السبب فقالت أريد أن أسلم على والدي وأخبرهم الى أين أنا ذاهبة ليفرحوا ، وقفت بين القبور وحدثت والديها المتوفيات في فترة متلاصقة فتجاور قبرهما ، عادت والدمعة نزلت على خدها ، ركبت السيارة ووصلت المدرسة ، رحبوا بها وباركوا لها الحفيد الجديد إذ أن ابنتها ابتسام أنجبت طفلا قبل أسبوع ، اعتلت المنصة ، تم تكريمها ، بدأت تتحدث ، هدوء يخيم والجميع يستمع لحديثها الخارج من القلب ، بكت وبكى من حولها من طاقم وعائلة وطلاب ، لم تتمكن من إكمال حديثها إت انخفض صوتها ولم تعد تقدر على الكلام ، شربت كأس ماء وأتمت ما بدأت به ، رن هاتف زوجها وعيونها غرقت بالدموع لكلام زوجته ، رقم غريب ، رد فبادره المتصل بالسؤال أانت السيد فؤاد فأجاب نعم ، قيل له نحن من المشفى وعليكم العودة فورا الى المشفى فهنالك أمر مهم جدا ، قلق فؤاد وصفق لزوجته الحبيبة بعد أن أنهت حديثها ، أخذوا الدرع وخرجوا من المدرسة ، لم يسلك طريق البيت بل اتجه خارج حدود القرية زوجها ، سألته الى أين ، فقال ألا تتذكرين أننا مجبرين بالعودة للمشفى ، فقالت غدا صباحا ، أجاب بأن الأمر ضروري ويجب أن يأخذوا بعض الفحوصات ليعلموا سبب حالتها الصحية ، لم يرق الأمر لزوجته وبدأ الشك يدغدغ مسامعها ، دخلوا القسم فقابلهم طاقم الممرضين فحولوهم للمختبر حيث انتظهر الطبيب ، قال أن أمرا مقلقا في النتائج ويجب متابعة الفحوصات الدقيقة المحددة الخاصة لعمل أحد أعضاء الجسم ، بدأوا بتصوريها صورا طبقية وفحوص تخطيط القلب وانزيمات الكبد ، اخبروهم أن يوم غد سيأخذوا عينة من الكبد ، وان النتيجة ستظهر بعد أسبوع أو اثنين ، بقيت تحت الرقابة في المشفى ، زاد طلبها للأدوية المضادة للألم ، تغير لونها ، بدأت تفقد من وزنها ، لم يفقدها ذلك من إيمانها ، فقد صلت وقرأت القران ، عزيمتها قوية ، تحدث بناتها واقربائها بقوة وتنصحهم ، أحست أن أمرا ليس بالطيب سيظهر قريبا وأن ما تبقى لها على وجه الأرض قليل ، أوصت زوجها وأولادها ، أهم شيء أسماء تزوجوها وتعملولها عرس مثل باقي خواتها ، انا حوشت شوية مصاري لوقت الضرورة ، تبرعوا فيهن للمسجد ، غضبت الهام ، ابنتها البكر وبكت لكلام أمها ، قالت ما تخافي يا امي ، فترة وبتمر ان شاء الله ، ليش هيك متشائمة ، ابتسمي للدنيا ، انت غالية علينا وبتهدمي عزيمتنا اذا بتظلك هيك ، احنا ملناش غيرك بالدنيا ، بكت الأم بكاء مريرا ، ولم يطمئن قلبها الا عندما ذكرت الله.
في المجلس المحلي توجد وظيفة شاغرة ، مفتش للمدارس في القرية ، بحثوا عن من يشغل هذا المنصب واقترحوا اسماء لذلك من بين الأسماء ظهر بارزا اسم سعاد ، مدحتها ادارة المدرسة وادارة البلدية ، وفكروا أنها مناسبة جدا للمنصب خاصة وان عدد ساعاته قليل نسبيا ولا يتطلب جهدا كبيرا ، اتصلوا لبيت سعاد فردت ابنتها اسماء وقال ان امها خرجت لمشوار مع والدها ، طلبوا رقم والدها أي فؤاد ، اتصلوا له ، رد فؤاد على الهاتف ، تحدث علي مسؤول قسم المعارف في المجلس ، انا في المشفى الان اقف مع الطبيب ، الرجاء ان تكلمني لاحقا سيد علي اجابه فؤاد ، سيد فؤاد للأسف لقد... ، ما الذي جرى حضرة الطبيب ، سيد فؤاد لا أخفيك سرا زوجتك مريضة ، أي مرض ؟ ، زوجتك مريضة بالسرطان ، لااااااااااااااا ، أرجوك متقولهاش يا دكتور ، طيب شو وضعها كيف هي ، وفق العينة التي أخذناها فان المرض انتشر ولم نعد قادرين على مساعدتها بشيء سوى أن نخفف الألم ، طيب فش عملية أو أشعة ؟ نعم يوجد ، لكنها ليست علاجية انما لتحسين حياة المريض وتقليل الوجع ليعيش ما تبقى له من عمر بأقل ضرر وألم ، الورم كبير وانتشر بعد أن وصل الكبد ، حسب تقديرنا فهي مريضة منذ سنة أو أكثر ، سنقوم باجراء عملية نستأصل بها جزء من الكبد والمرارة والبنكرياس والمعدة ، ونعطيها المسكنات والاشعة ، الأمر بيد الله ومن ثم نقوم نحن بما نستطيع ، يعني يا دكتور فش أمل ، للأسف يا سيد فؤاد هذا هو الحال.استدار فؤاد جهة الحائط وأجهش بالبكاء ، زوجته الحنون الحبيبة ، أم أولاده ، عاشت معه حلو الحياة ومرها ، ضرب بيده الحائط ، دخل اليها لسريرها في القسم ولم يتحدث انما كانت عيناه محمرة ونظر الى زوجته ، لم يقل شيء سوى أن وقف ينظر اليها ، فهمت زوجته أن نتائج الفحوصات سلبية ، ركض اليها وعانقها مقبلا جبينها ، قال ، سعاااااااااااااااااااااااااااااااااااااد ، سعااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااد ...