تحت عين الرقيب

وَمَنْ يَتهَيّبُ صُعودَ الجِبالِ ..... يَعِشْ أبَدَ الدهْرِ بَيْنَ الحُفَرِ

سعاد تعمل في سلك التعليم منذ 27 عام ، قررت هذا العام أن تخرج للتقاعد فقد تعبت اذ كبر سنها ولم تعد قادرة على أداء رسالة التعليم كما يجب ، فقد امتازت بالأمانة وأحست أنها تخون الأمانة إن أكملت عملها في المدرسة ، وافقوا لها على التقاعد المبكر ، ولأن الإدارة قد علمت مدى اخلاص سعاد ، جديتها وحرصها على الطلاب قرروا أن يقيموا حفل تكريم كبير لها ، واتفقوا على يوم يناسب الجميع لتـُعطى الدرع التكريمي وتلقي كلمة أخيرة أمام الطلاب.

الحفل يوم الثلاثاء، بدأت سعاد تجهز نفسها لذلك اليوم ، كتبت على ورقة مسودة كلمتها ، اشترت ملابس جديدة ، وهي ملتزمة باللباس الإسلامي ، دعت أخوتها وأخواتها وكل العائلة ، تذكرت والديها المتوفيين وسألت الله أن يرحمهما ويدخلهما الجنة ، ودت لو أنهما معها ، كانت تكلم نفسها وتقول انا مكملة كيف ربيتوني يابا ويما ، رافعة راسكم مثل ما قلتولي ، الحمد لله ، الله يرحمكم .

صباح يوم الأحد استفاقت سعاد وأحست بتعب شديد ، أحست أن جسدها مثقل ومجهد ، لا تستطيع الحراك ، ضيق بالنفس وسُعال ، زوجها يدخن السجائر داخل غرفة النوم وفي زوايا البيت ، ظنت أن ذلك هو السبب ، إلا أنها قالت لا ليس الدخان هو السبب فقد اعتدت فانا متزوجة منذ ثلاثين عاما ، وأهملت الموضوع ظانة أنها حالة عرضية وستختفي بعد ساعة أو يوم بعد أن ترتاح قليلا ، واستمرت بالتجهيز للحفل ، ونامت ذلك اليوم وهي تفكر كيف ستقف أمام الجميع للمرة الأخيرة وتودعهم تاركة الأمانة بأعناق من سيخلفها ويحل مكانها ، وطالبت الإدارة أن يختاروا إنسان يتحمل المسؤولية ، يوصل المادة للطلاب ويرشدهم ويكون قدوة لهم.

صباح يوم الإثنين كان صعبا عليها ، فقد سقطت أرضا عندما قامت لتتوظأ وتصلي الفجر ، زوجها خرج قبل بضع دقائق للمسجد ومن هناك سيتوجه للعمل في العمار ، لحسن حظها فان ابنتها الصغيرة لم تتزوج بعد وما زالت في البيت ، فقد زوجت سعاد ثلاث بنات وابنين ، بقيت أسماء ابنتها الصغيرة ، سمعت أسماء صوت أمها تصرخ ، فتوجهت صوب بيت أخيها أحمد وطلبت منه الحضور حالا ، جاء على عجلة بملابس النوم ، رأى أمه على الأرض تكاد تختنق ولا تقدر أن تتحرك ، حملها الى سيارته ، نقلها الى المشفى على عجلة ، أدخلها غرفة الطوارئ ، فحصوا لها الضغط والنبض والأوكسجين بالجسم ، وجدوا ضغطها مرتفع وحرارتها كذلك ، في حين انخفضت نسبة الأوكسجين في الدم ، وضعوا لها " قناع" أوكسجين فتحسن نفسها ، أعطوها مسكنات إذ اشتكت من الام حادة في بطنها ، تحسن حالها مع دخول أشعة الشمس مشرقة غرفة الطوارئ ، أخذ الطبيب المناوب لها فحوصات دم وأراد تحويلها لغرفة في قسم الأمراض الباطنية ، لكنها رفضت ذلك كي لا تضيع حفل التكريم ، وصل ابنها لحل وسط مع الطبيب يقضي بأن تصعد للقسم وتــُسجل هناك على أساس أنها مريضة في القسم ، وتحصل على تصريح ، اذن خروج ، ليومين وتعود بعدها لإكمال الفحوصات اللازمة على شرط توجهها لقسم الطوارئ مباشرة إن حصل لها أي طارئ ، وافقت ومضت على تعهد وخرجت من المشفى بعد صلاة الظهر.

عادت إلى البيت بعد أن تركت رقم زوجها ورقم ابنها ليتم اخبارهم بأي مستجد ، أخذت قسطا من الراحة ، أخبرت زوجها بما حدث معها بعد عودته من العمل ، فقلق جدا ولم يرق له الأمر وبدأت الشكوك تجول في خاطره ، في حين تفكر زوجته بالحفل ولم تعطي للفحوصات حيز من تفكيرها سوى قلق بسيط.

لبست المدرسة حلة جميلة يوم تكريمها ، فقد رفضت أن تقام الحفلة خارج المدرسة ، زينت الساحات والممرات ، احضرت المشروبات الخفيفة والحلويات ، اجتمع الطلاب وجمعوا مبلغا من المال واشتروا هدية رمزية منهم لمربية صفهم وحاملة همومهم مدة عامين ، ركبت السيارة مع زوجها وابنتها وتبعهم باقي أفراد العائلة واخوة زوجها واخواته وأمه وأبيه ، أحبوها كلهم ، فهي حنونة رقيقة ، ملتزمة خلوقة ، في الطريق مروا بمقبرة القرية ، طلبت من زوجها التوقف هناك ، فسأل عن السبب فقالت أريد أن أسلم على والدي وأخبرهم الى أين أنا ذاهبة ليفرحوا ، وقفت بين القبور وحدثت والديها المتوفيات في فترة متلاصقة فتجاور قبرهما ، عادت والدمعة نزلت على خدها ، ركبت السيارة ووصلت المدرسة ، رحبوا بها وباركوا لها الحفيد الجديد إذ أن ابنتها ابتسام أنجبت طفلا قبل أسبوع ، اعتلت المنصة ، تم تكريمها ، بدأت تتحدث ، هدوء يخيم والجميع يستمع لحديثها الخارج من القلب ، بكت وبكى من حولها من طاقم وعائلة وطلاب ، لم تتمكن من إكمال حديثها إت انخفض صوتها ولم تعد تقدر على الكلام ، شربت كأس ماء وأتمت ما بدأت به ، رن هاتف زوجها وعيونها غرقت بالدموع لكلام زوجته ، رقم غريب ، رد فبادره المتصل بالسؤال أانت السيد فؤاد فأجاب نعم ، قيل له نحن من المشفى وعليكم العودة فورا الى المشفى فهنالك أمر مهم جدا ، قلق فؤاد وصفق لزوجته الحبيبة بعد أن أنهت حديثها ، أخذوا الدرع وخرجوا من المدرسة ، لم يسلك طريق البيت بل اتجه خارج حدود القرية زوجها ، سألته الى أين ، فقال ألا تتذكرين أننا مجبرين بالعودة للمشفى ، فقالت غدا صباحا ، أجاب بأن الأمر ضروري ويجب أن يأخذوا بعض الفحوصات ليعلموا سبب حالتها الصحية ، لم يرق الأمر لزوجته وبدأ الشك يدغدغ مسامعها ، دخلوا القسم فقابلهم طاقم الممرضين فحولوهم للمختبر حيث انتظهر الطبيب ، قال أن أمرا مقلقا في النتائج ويجب متابعة الفحوصات الدقيقة المحددة الخاصة لعمل أحد أعضاء الجسم ، بدأوا بتصوريها صورا طبقية وفحوص تخطيط القلب وانزيمات الكبد ، اخبروهم أن يوم غد سيأخذوا عينة من الكبد ، وان النتيجة ستظهر بعد أسبوع أو اثنين ، بقيت تحت الرقابة في المشفى ، زاد طلبها للأدوية المضادة للألم ، تغير لونها ، بدأت تفقد من وزنها ، لم يفقدها ذلك من إيمانها ، فقد صلت وقرأت القران ، عزيمتها قوية ، تحدث بناتها واقربائها بقوة وتنصحهم ، أحست أن أمرا ليس بالطيب سيظهر قريبا وأن ما تبقى لها على وجه الأرض قليل ، أوصت زوجها وأولادها ، أهم شيء أسماء تزوجوها وتعملولها عرس مثل باقي خواتها ، انا حوشت شوية مصاري لوقت الضرورة ، تبرعوا فيهن للمسجد ، غضبت الهام ، ابنتها البكر وبكت لكلام أمها ، قالت ما تخافي يا امي ، فترة وبتمر ان شاء الله ، ليش هيك متشائمة ، ابتسمي للدنيا ، انت غالية علينا وبتهدمي عزيمتنا اذا بتظلك هيك ، احنا ملناش غيرك بالدنيا ، بكت الأم بكاء مريرا ، ولم يطمئن قلبها الا عندما ذكرت الله.

في المجلس المحلي توجد وظيفة شاغرة ، مفتش للمدارس في القرية ، بحثوا عن من يشغل هذا المنصب واقترحوا اسماء لذلك من بين الأسماء ظهر بارزا اسم سعاد ، مدحتها ادارة المدرسة وادارة البلدية ، وفكروا أنها مناسبة جدا للمنصب خاصة وان عدد ساعاته قليل نسبيا ولا يتطلب جهدا كبيرا ، اتصلوا لبيت سعاد فردت ابنتها اسماء وقال ان امها خرجت لمشوار مع والدها ، طلبوا رقم والدها أي فؤاد ، اتصلوا له ، رد فؤاد على الهاتف ، تحدث علي مسؤول قسم المعارف في المجلس ، انا في المشفى الان اقف مع الطبيب ، الرجاء ان تكلمني لاحقا سيد علي اجابه فؤاد ، سيد فؤاد للأسف لقد... ، ما الذي جرى حضرة الطبيب ، سيد فؤاد لا أخفيك سرا زوجتك مريضة ، أي مرض ؟ ، زوجتك مريضة بالسرطان ، لااااااااااااااا ، أرجوك متقولهاش يا دكتور ، طيب شو وضعها كيف هي ، وفق العينة التي أخذناها فان المرض انتشر ولم نعد قادرين على مساعدتها بشيء سوى أن نخفف الألم ، طيب فش عملية أو أشعة ؟ نعم يوجد ، لكنها ليست علاجية انما لتحسين حياة المريض وتقليل الوجع ليعيش ما تبقى له من عمر بأقل ضرر وألم ، الورم كبير وانتشر بعد أن وصل الكبد ، حسب تقديرنا فهي مريضة منذ سنة أو أكثر ، سنقوم باجراء عملية نستأصل بها جزء من الكبد والمرارة والبنكرياس والمعدة ، ونعطيها المسكنات والاشعة ، الأمر بيد الله ومن ثم نقوم نحن بما نستطيع ، يعني يا دكتور فش أمل ، للأسف يا سيد فؤاد هذا هو الحال.استدار فؤاد جهة الحائط وأجهش بالبكاء ، زوجته الحنون الحبيبة ، أم أولاده ، عاشت معه حلو الحياة ومرها ، ضرب بيده الحائط ، دخل اليها لسريرها في القسم ولم يتحدث انما كانت عيناه محمرة ونظر الى زوجته ، لم يقل شيء سوى أن وقف ينظر اليها ، فهمت زوجته أن نتائج الفحوصات سلبية ، ركض اليها وعانقها مقبلا جبينها ، قال ، سعاااااااااااااااااااااااااااااااااااااد ، سعااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااد ...

5 التعليقات:

حقيقية ام تاليفك؟

السلام عليكم

أنا كتبت القصة ، هي استوحيتها من خلال عملي في المشفى ...

فالتقت عدة أحداث وعدة شخصيات ، صغتها في قصة واحدة

ارسال قعدان يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين

لا مجال للهروب من واقع نعيش به ولكن هناك مجال ان نغير من تعاملنا مع واقع حكم علينا ان نعيش به

اخي بالله بارك الله فيك ونحن نفتخر بك فيسعدوني اني اعرفك ويسعدني اني فعلا عرفت شخصا متميزا مثلك اتمنى لك حياة كريمه طيبه واكمل مشوارك نحو النجاج فهنيئا لك .

"الحياة مليئة بالحجارة فلا تنعثر بها، بل اجمعها وابني بها سلما تصعد به نحو النجاح"

ersal qaadan

الأخ شادي،

مُستواكَ في الكتابةِ تحسّن بأضعاف مُضاعفة حقيقة.
أهنّئك على المُستوى الذي وصلتَ إليهِ.

أسألُ الله أن يشفي كلّ مريضٍ مُسلم.

تلميذة الرسول :صلى الله عليه وسلم يقول...

كل نفس ذائقة الموت،
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها الا التي كان قبل الموت يبنيها.

كثيرة هي العبر ،وقليل من يعتبر اسال الله لنا ولكم الفهم السديد والعمل الطيب الصالح
بورك المداد وبورك ساكبه

إرسال تعليق